غزوة بدر الكبرى
أخرج
المسلمون من ديارهم وأموالهم في هجرتهم من مكة إلى المدينة. وقد عبر عن
ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن
يقولوا ربنا الله. وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند خروجه من مكة
مهاجرا: "والله يا مكة اني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك
أخرجوني منك ما خرجت".
وبعد مضي عام وبعض العام، وصلت الأنباء بأن أبا
سفيان، وكان سيد مكة، عائد من الشام على رأس قافلة تتكون من حوالى ألف جمل
محملة بالأموال والتجارة. وكان يتعمد المرور بالقرب من المدينة في طريقه
إلى مكة لتحدي المسلمين وإثارة مشاعرهم، واستهتارا بالمسلمين، وكانت
القافلة في حراسة أربعين رجلا فقط.
لقد أراد الكفار أن يظهروا انهم
أخرجوا محمداً صلى الله عليه وسلم- ورجاله من مكة واستولوا على ديارهم
وأموالهم، ثم يمرون بالقرب من المدينة، ومعهم أموالهم في حراسة عدد قليل
من الرجال ليثبتوا أن أحدا من المسلمين لن يجرؤ على التعرض لهم.
لهذا
دعا رسول الله صلى عليه وسلم رجاله إلى اعتراض طريق هذه القافلة - قائلا:
(هذه هي عير قريش، فيها أموالهم فاخرجوا اليها لعل الله أن يجعلها غنيمة
لكم).
وخرج الرسول القائد - صلوات الله عليه وسلامه عليه- ومعه ثلاثمئة
وأربعة عشر رجلا. ولم تكن معهم خيول أو ركائب كافية، فكانوا كل ثلاثة على
بعير. ولم تكن معهم من معدات وأسلحة القتال سوى القليل. ولكن كان معهم روح
معنوية عالية، واستعداد للتضحية في سبيل الله. واستطاعت قافلة أبي سفيان
أن تفلت، وغيرت طريقها بعد أن أرسلت تستنجد بكفار مكة وخرج الكفار مجهزين
بالخيل وأسلحة القتال المختلفة من سهام وسيوف وحراب. وكان الكفار قد
تملكهم الغرور والكبرياء، وظنوا أنهم سوف يرهبون المسلمين ويردّونهم على
أعقابهم.
ولكن الرسول القائد -صلوات الله وسلامه عليه- وصل ورجاله إلى
(بدر) في نفس الوقت الذي وصل فيه الكفار. وهنا يقول الله سبحانه وتعالى:
ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا*ليهلك
من هلك عن بينه ويحيا من حي عن بينة. وتغير الموقف... فبعد أن كانت
القافلة هى الهدف من القتال إذ بالمسلمين على أبواب معركة كبيرة مع
الكفار. واستشار الرسول القائد أصحابه. فقام ثلاثة من المهاجرين يبايعونه
على القتال معه، وهم أبوبكر، وعمر، والمقداد بن عمر.
وكان مما قاله المقداد:
"
والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا
ههنا قاعدون.. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون".
وقام من زعماء الأنصار سعد بن معاذ-وقال:
آمنا
بك وصدقناك. وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا
ومواثيقنا على السمع والطاعة لك. فامض يارسول الله لما أردت، فنحن معك،
فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف
منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق
عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله....".
وقد سر النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال:
(سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين- أي القافلة أو النصر- والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم...).
سير المعركة
وفي
صباح يوم 17 رمضان في السنه الثانية من الهجره بدأت المعركة بمبارزة فرديه
بين ثلاثة من الكفار هم: عتبة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وثلاثة من
المسلمين هم: حمزة، وعلي، وعبيد بن الحارث، وقد تمكن رجال الإسلام من قتل
الكفار. وهنا اشتد غيظ الكفار وزاد هياجهم وبدأ الهجوم، والتحم
الجيشان.... وكان الرسول القائد صلى الله عليه وسلم- أقرب ما يكون إلى
العدو في القتال- وهو يقول:
(والذي نفسى بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، الا أدخله الله الجنة).
وقام
جند الله في أول معارك الإسلام بالقتال بكل شجاعة وبسالة وفداء، وأنزل
الله ملائكته تثبت الذين آمنوا، قال تعالى: اذ يوحي ربك إلى الملائكة أني
معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق
الأعناق، واضربوا منهم كل بنان).
وأسفرت المعركة عن نصر حاسم للمسلمين، وأصيب الكفار بهزيمة منكرة وكسرت كبرياء الكفر وصاح الرسول القائد: (شاهت الوجوه).
وتكبد الكفار خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، اذ قتل سبعون من أشد رجالهم وعلى رأسهم أبو جهل -ألد أعداء الإسلام - وأسر منهم سبعون.
واستشهد
من المسلمين أربعة عشر كانوا طليعة شهداء الإسلام. وانتهى ضعف المسلمين
وبدأت قوتهم تثبت وجودها إلى جانب الحق وأطلق القرآن على يوم بدر: (يوم
الفرقان يوم التقى الجمعان).
كانت مقارنة قوات الجانبين تبين أن قوة
قريش التي دفعت لنجدة القافلة - بلغت 950 رجلا من المشاة، و100 من الفرسان
المدرعين. بينما كانت قوة المسلمين 314 رجلا فقط، ومعهم 70 جملا وبعض
الخيول.
وعلى الرغم من ذلك، فقد قرر الرسول القائد- عليه الصلاة
والسلام- بعد مشاورة أصحابه ضرورة قتال قريش محافظة على هيبة المسلمين
واستمرار الدعوة.
ولما وصل الرسول الكريم ورجاله بالقرب من (بدر) بعث
النبي- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة من رجاله للحصول على معلومات عن العدو،
ومدى تقدم قريش واستعدادها. فلما وصلوا إلى بئر (بدر) وجدوا غلامين من
أتباع قريش يستقيان من البئر، فأخذوهما إلى النبي القائد، فقام
باستجوابهما عن عدد أفراد قريش الذين جاؤوا للقتال، فقالا: لا ندري.
فسألهما- صلى الله عليه وسلم- كم تنحرون من الإبل كل يوم؟ فقالا: يوما
تسعة ويوما عشرة، فقال النبي الكريم: (القوم -أي الأعداء- ما بين تسعمئة
والألف).
وهكذا استطاع الرسول القائد- عليه الصلاة والسلام أن يستنتج
عدد المشركين من عدد ما ينحرون من الإبل، لأنه قدر أن البعير الواحد يأكله
حوالى مئة رجل.
وكانت أوامر الرسول القائد- صلى الله عليه وسلم- بعد أن
عدل صفوف المسلمين (إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبال، واستبقوا نبلكم
ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم). والمقصود من هذه الأوامر هو دفع الأعداء
بالنبل وهم على مسافة بعيدة، مع احتفاظ المسلمين بنبلهم فهو سلاح القتال
المؤثر.
وعندما بدأ القتال بين المسلمين وقريش أشفق النبى صلى الله
عليه وسلم على رجاله الثلاثمئة الذين يقاتلون قرابة الألف من المشركين.
فتوجه إلى ربه سبحانه وتعالى بكل جوارحه- حتى أنزل الله قوله تعالى:
(وكان حقا علينا نصر المؤمنين، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
الدورس المستفادة
لقد أبرزت هذه المعركة العديد من الدروس الهامة- وهي:
- القيادة الجماعية:
وذلك
عندما أشار الحباب بن المنذر على الرسول القائد صلى الله وسلم- بأن يغير
الموقع الذي اتخذه بجوار ماء بدر. واقتنع الرسول القائد برأي الحباب، وأمر
المسلمين بالانتقال إلى حيث أشار الحباب. وهكذا ضرب لنا الرسول القائد
مثلا للقائد الناجح، فإن الأخذ بالمشورة الصالحة من المرؤوسين- هي دليل
مشاركة الجميع للقائد- واستفادة القائد من خبرتهم.
- الضبط والربط:
فقد
أمر الرسول القائد- صلى الله عليه وسلم- بتأخير قذف السهام من النبال حتى
يقترب الأعداء ومنع استعمال السيوف الا عند اقتراب العدو للقتال المتلاحم.
وهذا مبدأ من مبادئ الحرب الحديثة التي تدعو إلى عدم فتح النيران على
العدو حتى يصبح في المدى المؤثر للأسلحة المستخدمة.
- الروح المعنوية:
كانت
معركة بدر مثلا رائعا على أهمية الروح المعنوية في المعركة، حيث تمكن 300
مقاتل من المسلمين من هزيمة حوالى 1000 رجل من قريش، ذلك أن المسلمين
كانوا يقاتلون عن ايمان وعقيدة، وإن الروح المعنوية التي تأتي عن ايمان
بالهدف من القتال، هى التي تثبت الأقدام وترهب الأعداء.
- الاستطلاع:
استخدم
الرسول القائد- صلى الله عليه وسلم- بعض رجاله في الحصول على معلومات عن
العدو، قبل دخوله المعركة. وقد نجح في ذلك وتمكن من تقدير قوات العدو
بحوالى 1000 رجل بعد استجواب الفتيين اللذين تم أسرهما.
- معاملة الأسرى:
تمكن
المسلمون في هذه المعركة من أخذ الكثير من الأسرى. وقرر المسلمون أخذ فداء
منهم نظير إطلاق سراحهم. وقد وضع الرسول القائد- صلى الله عليه وسلم-
مبادئ معاملة الأسرى معاملة كريمة وعدم إيذائهم- فقال لأصحابه
استوصوا بهم خيرا).
لاتنسونا بالدعاء