المصريون من أكثر شعوب العالم تمسكا بالعادات والتقاليد المتوارثة من قديم الأزل ، ويبدو هذا واضحا جليا من خلال طقوس حياتهم اليومية وسلوكهم اليومي ، بالإضافة إلي مظاهر الاحتفال بالأعياد والمناسبات المختلفة .. وفي السطور سنحاول رصد بعض هذه العادات وبيان جذورها والحكمة منها ومدي استمرارها في حياة المصريين ..
المأذون والكوشة والزغرودة .. طقوس فرعونية قديمة
طقوس الزواج التي نمارسها اليوم فرعونية من الدرجة الأولي ، فالمأذون ذو العمة والقفطان أو حتي المأذون " المودرن " بالبدلة والكرافت ، هو نفسه المأذون الفرعوني المكلف من المعبد بعقد رباط الحياة الزوجية المقدس بين العروسين ، ويقوم بعد ذلك بكتابة عقد الزواج من 3 نسخ - مثلما يحدث الآن تماما - واحدة للعروسين وأخري للمأذون وثالثة لدار المحفوظات حتى لا يضيع حق أحد ..
وعن إقامة حفل الزفاف ، اعتاد المصريون علي أن يكون حفل الزفاف في منزل العريس أو العروس حسب الاتفاق ، أو مثلما يحدث الآن في أحد الفنادق الكبري إذا كان العريس ثري بعض الشيء ، أو في نوادي الدرجة الثانية ، أو في أغلب الأحيان علي سطح منزله !!!
كذلك كان العروسان قديما يقومان بتزيين قاعة الزفاف ، وأهم شيء يستخدم لتزيين القاعة هو زهر الياسمين ، وهو بالفرعوني " الياسمون " ، وذلك لأنه في اعتقادهم زهر الجنة ورائحته هي رائحة الجنة ، وكان يطلق علي المكان الذي يجلس فيه العروسين " الكوش " ، وقد تطور هذا الاسم الآن وأصبح " الكوشة " .
ومن تقاليد الأفراح المصرية حاليا " تورتة العروسين " والتي يحرص فيها العروسان علي تقطيعها سويا ، ويقوم كل منهما بتناول جزءا صغيرا علي طرف السكين من الشيف المخصص لتقطيع هذه التورتة .
كما تحرص النساء اللائي يحضرن الزفاف بإطلاق " الزغاريد " التي تعبر عن فرحتهم بإتمام هذا الزفاف المبارك .
المآتم المصرية .. حكايات وروايات
أما عادات المصريين في المآتم فهي بحق تعتبر تراثا يجب الإشادة به دائما ، فالمصريين في المآتم ينقسمون إلي طبقات تبعا لمستوي المعيشة تماما ، فلابد أن يظهروا حتى ولو في الأحزان بأحسن مظهر، لابد أن يكون لكل إنسان ذكرى يتذكره بها الناس فيوم الممات هو يوم عيد بالنسبة للمتوفى، وكل إنسان له مقامه .
وللأسف الآن لا توجد مآتم كالتي كانت تقام زمان ، فالآن أهل المرحوم يكتفون بتأجير الفراشة لمده ثلاث ساعات فقط ، رغم أن سرادق العزاء كان يستمر ثلاثة أيام في الفترات الماضية .
ويقول حانوتي متخصص في نقل الموتى من " ولاد الأكابر " علي حد قوله :
كل ميت وله مقامه وسعره يعني إذا كان الميت جاي من الخارج فأنا استلمه من المطار وأوصله لمثواه الأخير ، إذا كان داخل مقابر القاهرة أو الفيوم آخذ مبلغ 2000 جنيه ، أما إذا كان سيدفن بالمحافظات فكل توصيلة حسب المسافة.
أما عبد الباسط التربي فيقول
" أنا كتربي مش معقول ادفن ابن الوزير مثل ابن الفقير، كل واحد لازم يكون عنده نظر وتقدير، بيتكلفوا جبس و عربيتين رمل ، وأنا بآخذ في الرأس 300 جنيه ، لأن الرمل ارتفع سعره، كذلك الجبس ، وكمان كل شيء في مصر زاد اشمعنى أنا " !!!
واللافت للنظر في مسألة مآتم المصريين ، ما ابتدعه البعض من ضرورة تأجير أحد المقرئين المشهورين لتلاوة القرآن الكريم في العزاء ، والذي قد يصل أجره في بعض الأحيان إلي 20 ألف جنيه في ساعتين فقط من الوقت ، رغم أن البعض بدأ يستعيض عن هذا الأمر بتشغيل جهاز الكاسيت علي صوت أشهر قارئي القرآن في مصر ، دون الحاجة إلي دفع هذا المبلغ المبالغ فيه ، وعلي رأي المثل المصري " هو موت وخراب ديار " !!!
المآتم المصرية .. وفن العديد :-
في بقاع مصرنا الحبيبة تختلف بالضرورة طقوس الجنازات والمآتم من محافظة لأخرى ، ومن قرية إلي قرية في نفس المحافظة ، رغم أنهم يجتمعون في النهاية علي رباط واحد وهو احترام قدسية الموتى ..
ولكن الشيء الأكثر شهرة في معظم محافظات صعيد مصر ، هو براعة المرأة المصرية في فن العديد ، واللطم علي الخدود والندب ، والذي تتباهي به النساء في كل مآتم ، حيث تتباري كل سيدة علي حدة في إبراز موهبتها في اللطم والعديد ..
يُعد الرثاء من أقدم وأهم فنون القول التي مارسها الإنسان لارتباطه بحقيقة كونية كبرى هي الموت، ولارتباطه بحاجات نفسية إنسانية أساسية منها الحزن الذي يصاحب حقيقة موت إنسان عزيز، ومنها رغبة الإنسان في الخلود، أو أن يبقى ذكره حتى بعد موته ممثلاً في تمثال خالد، أو مقبرة عظيمة، أو كتاب، أو الذكر الحسن الذي تخلده قصيدة رثاء!!
و"العديد" هو الرثاء في صورته الشعبية تقوله المرأة في حالة موت شخص ما، وقد تقلصت أغراض الرثاء في العديد، فأصبحت غرضًا واحدًا أساسيًا هو إثارة الحزن واللوعة على الفقيد عن طريق الصورة الشعرية.. وكان العديد يقال في المآتم عن طريق سيدات يحترفنه هن "الندابات" أو "الشلايات" هذا بالنسبة لطبقة الأثرياء، أما الطبقات غير الثرية فقد كانت تنشر "العديد" إحدى السيدات اللاتي تحفظه..
وكان هذا الفن يتركز في المآتم إلا أنه يتناول معظم ظروف الحياة التي تعيشها المرأة الشعبية، كما أنه يشبع حاجة الحزن لديها، ويشبع أيضًا سليقة طبيعية هي "الشاعرية" التي يوجد منها قسط لدى كل إنسان..
ويتميز العديد بقوة التصوير لأن الصورة هي سلاحه الأساسي في تحقيق غرضه، وهو إثارة الحزن في النفوس.
و"العديد" صورة تنعكس فيها حياة المجتمع، وتنطبع عليها أفكاره وطابع حياته، فهو يسجل في حياة الشعب ناحيتين.. عقلية الشعب وأفكاره.. حياة الشعب الاجتماعية والسياسية .. كما يساعد العديد على الإحاطة بأسلوب حياة وعادات وتقاليد ومناسبات وملابس ومأكل وأثاث… إلخ الطبقات الشعبية التي شاع فيها هذا الفن، وبذلك سدَّ العديد ثغرة في التاريخ الرسمي الذي سلط أضواءه على ما يخص الطبقات الأعلى متجاهلاً الطبقات الشعبية..
والعديد يتألف من مقطوعات، كل مقطوعة تتكون من بيتين، وكل بيت يتكون من شطرين فيكون مجموع المقطوعة أربع شطرات، ولكن من حيث المعنى نجد المقطوعة تتكون من بيت واحد، أما الثاني فهو تكرار للأول لا يختلف عنه إلا في نهاية الشطر تين بكلمتين مرادفتين غالبًا لمثيلتيهما في البيت الأول، وعندما تتكون المقطوعة من أكثر من بيتين - أحيانًا قليلة- تكون كلها تكرارًا للبيت الأول بنفس الطريقة أيضًا.. ولا تلتزم المقطوعات اتحاد أواخر الشطرات اتحادًا تامًا بل قد يكفي التقارب بين أواخر الكلمتين في مخارج الحروف والنغم والموسيقى، ويحاول العديد الالتزام بالأوزان الشعرية، ولكنه لا ينجح دائمًا فتعوض "المعددة" ذلك الأمر بإلقاء "العدودة" في نغم موسيقي بلا نشاز.
ولا بد هنا من إبراز التأكيد على موقف الدين من العديد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم "قد نهى نهيًا شديدًا عن مظاهر الحزن في الحديث الشريف "
ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"
ولكنه لم يرد قط أنه نهى عن الكلام الذي يقال لمجرد التعبير عن الحزن سواء أكان شعرًا أم نثرًا، بل كان يستمع إلى مثل هذا، وأحيانًا يطلب الاستزادة في السماع، كما فعل صلوات الله عليه وسلامه، وهو يستمع إلى أشعر شعراء وشاعرات الرثاء والعديد "الخنساء"، وكانت كلما توقفت عن الإنشاد استزادها بقوله (هيه يا خناس) يعني استمري في الإنشاد يا خنساء. ومن البديهي أن العديد ليس إلا رثاء"…
والمعروف أن الرثاء يقال في حزن وقور بدون المظاهر المنهي عنها، أما العديد فيعتبر اللطم وشق الجيوب وحمل الطين والتراب على الرؤوس من ألزم لوازمه لدى المرأة الشعبية، لذلك شدَّد رجال الدين في محاربة العديد بسبب لوازمه ومصاحباته حتى وإن كان هو نفسه لا بأس به.. وقد يكون هذا من الأسباب الرئيسية لاندثار العديد، بالإضافة إلى ارتفاع درجة التعليم ومستوى الثقافة والانفتاح على العالم عن طريق الإذاعة والتليفزيون، وما صاحب ذلك من تغير في سلوك وعادات المرأة الشعبية، وطرق تعبيرها عن مشاعرها الفرحة والحزينة على السواء فأصبح مستهجنًا اليوم لديها ما كانت جدتها تعتبره ضروريًا..
وهناك 38 نوعًا من العديد تشمل معظم مناسبات الحياة بداية من عديد المرضى والعديد على الرجال والأطفال، وعديد الشباب والغسل والجنازة والعروس والمتعلمين والشجاعة والغريب، وعديد الذي لم يعقب أولادًا. والمرأة التي مات كل أولادها، والمرأة التي ماتت في الولادة، وعديد المناصب، وعديد الغريق والمحروق والسجين وصريع العربات.
وقبل أن نقدم نماذج من هذا العديد لا بد أن نشير إلى وجود العديد لدى كل الشعوب بصور متقاربة تقارب ثقافات تلك الشعوب، فإذا تشابه المستوى الثقافي والاجتماعي للمرأة في شعبين تشابه أيضًا العديد، بل وتشابهت مصاحباته ولوازمه كذلك..
ومن أشهر نماذج العديد المنتشرة في صعيد مصر وبعض محافظات الوجه البحري والقرى المختلفة:-
عديد التقي
طريق الجوامع تبكي عليه وتنوح ، فين المصلى اللي ييجي ويروح؟
طريق الجوامع تبكي عليه ديمة ، فين المصلى صاحب القيمة؟
عديد البنت التي لم تتزوج
يا ماشطة ارضي لها المقصوص ، وارمي لها بين الفروق دبوس
يا ماشطة ارضي لها لِبة ، وارمي لها بين الفروق دبلة
عديد الشجاعة
كان لنا سبع تهيبه السبوعة ، والسبع مات واحنا تاكلنا الضبوعة
كان لنا سبع تهيبه الناس ، والسبع مات واحنا صبحنا بلاش
عديد ذوي المناصب
القول عليك يا صاحب الجودة ، حجر الحدود ما تقلعك موجة
القول عليك يا صاحب المقدار ، حجر الحدود ما يقلعك تيار
عديد المواسم والأعياد
يا عيد عَيَّدْ على الجيران وامشي ، احنا الحزانى ولا نعيدشي
يا عيد عَيَّدْ على الجيران وروح ، احنا الحزانى وقلبنا مجروح
عديد المحروق
عين الجدع طالعة برة ، يا مين يحوش النار يا أهل الله؟
عين الجدع طالعة قدام ، يا مين يحوش النار دي يا أولاد؟
عديد صريع العربات
يا خد ويدي تحت العجل وحده ، يا حاضرين ابعتوا لاهله
يا خد ويدي تحت العجل وحديه ، يا حاضرين ابعتوا لاهليه
عديد السجن
سجانهم يا بو القفول نحاس ، واوعى توديهم بلاد الناس
سجانهم يا بو القفول حديد ، واوعى توديهم بلاد بعيد
عديد الصباح
رحت أصبحهم صباح الخير ، قالت الحمولة سيروا في الليل
رحت أصبحهم صباح بدري ، قالت الحمولة سيروا فجري
عديد العروس
مادي الله عريس معزوم في جنينة ، يا ريتها زفة ودخلته الليلة
مادي الله عريس معزوم بيت عمه ، لا طبلة ضرب ولا نقوط لمه
مادي الله عريس معزوم بيت خاله ، لا طبلة ضرب ولا نقوط جاره
عديد المرأة على زوجها
يا عمود بيتي والعمود هدوه ، يا هل ترى في بيت مين نصبوه؟
يا عمود بيتي والعمود رخام ، يا هل ترى في بيت من اتقام؟
المولد النبوي الشريف
المصريون عامة يحبون آل البيت، لكن حبهم للرسول (صلى الله عليه وسلم) أشد، ويقيمون الاحتفالات الدينية الضخمة لأفراد آل البيت المدفونين في مصر، مثل: الإمام الحسين والسيدة زينب، والتي يحضرها الملايين من عامة الشعب المصري ويسعون إليها بدأب كل عام.
ولكن تظل ذكرى مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم) درة الاحتفالات الدينية على الإطلاق، فجميع أهل مصر يحتفون بها احتفاء كبيرًا بإحياء الشعائر الإسلامية، وتناول الحلوى، وكأن هناك علاقة وثيقة ـ في نظر المصريين ـ بين ميلاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والطعم الحلو، وليس هذا فحسب بل إنهم صنعوا لتلك المناسبة عروسًا ليختلط الوقار المتمثل في ذكرى ميلاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بطعم السكر في الحلوى، مع أجواء الفرح بالعروس، باعتباره أحلى الاحتفالات على الإطلاق!! وتاج المشاعر الدينية!!.
وقد حاول الحكام على تعاقبهم واختلاف أجناسهم استغلال تلك الخصوصية عند المصريين وتقربوا إليهم، وحاولوا استمالتهم بالاهتمام بكل الاحتفالات الدينية، وعلى رأسها المولد النبوي الشريف، حتى إنهم غالوا في مظاهر تلك الاحتفالات، وصرفوا عليها ببذخ كبير، بدءًا من الخلفاء الفاطميين الذين لعبوا على المشاعر الدينية باقتدار، وتمكنوا من بسط نفوذهم إلى بلاد كثيرة من العالم الإسلامي.
ويذكر المؤرخ "عبد الرحمن الجبرتي" الذي عاش في زمن الحملة الفرنسية على مصر أن "نابليون بونابرت" اهتم بإقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف سنة 1213هـ 1798م، من خلال إرسال نفقات الاحتفالات وقدرها 300 ريال فرنسي إلى منزل الشيخ البكري (نقيب الأشراف في مصر) بحي الأزبكية، وأُرسلت أيضًا إليه الطبول الضخمة والقناديل.. وفي الليل أقيمت الألعاب النارية احتفالاً بالمولد النبوي، وعاود نابليون الاحتفال به في العام التالي لاستمالة قلوب المصريين إلى الحملة الفرنسية وقوادها.
ويرى البعض أن الاهتمام الشديد لدى المصريين بتلك الأعياد الدينية ما هو إلا ميراث مصري قديم يضرب بجذوره في عمق التاريخ المصري الذي شهد اهتمامًا بإقامة طقوس وتقاليد دقيقة في أعياد جلوس الملك على العرش وعيد ميلاده وعيد الحصاد وعيد وفاء النيل، ومن ثم ورث المصريون من أجدادهم ذلك الاهتمام بطقوس الاحتفالات الدينية فيما بعد.
وعن بداية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، يذكر أن الفاطميين الذين جاءوا إلى مصر من بلاد المغرب على يد قائدهم "جوهر الصقلي" كانوا ينسبون أنفسهم إلى السيدة "فاطمة الزهراء" ابنة الرسول الكريم وزوجة الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)؛ ولذا اهتموا بإحياء المناسبات والأعياد الإسلامية خاصة موالد آل البيت والمولد النبوي الشريف.
وقد حاول الخليفة الفاطمي "المعز لدين الله" عندما جعل مدينة القاهرة عاصمة خلافته أن يستميل الشعب المصري، فأمر بإقامة أول احتفال بالمولد النبوي الشريف عام 973هـ.
وذكر المقريزي في خططه الاحتفالات التي اهتم الفاطميون بها وهي الموالد الستة، وفصّلها بأنها مولد الإمام الحسين (5 ربيع الأول)، ومولد السيدة فاطمة الزهراء (20 جمادى الآخرة)، ومولد الإمام على (13 رجب)، ومولد الإمام الحسن (15 رمضان)، ومولد الرسول (صلى الله عليه وسلم) (12 ربيع الأول)، وأخيرًا مولد الخليفة الحاكم للبلاد.
وقد حاربت الدولة الأيوبية الاحتفالات والتقاليد الفاطمية لمحو نفوذ الفاطميين من العالم الإسلامي، ولأن الدولة الأيوبية كانت سنية المذهب بينما سابقتها شيعية مغالية، لكن المصريين عادوا للاحتفال بالمولد النبوي في عصر المماليك .
ويذكر "ابن إياس" الاحتفال في عهدين؛ حيث عاصر في ربيع الأول عام 922هـ، احتفالات السلطان المملوكي "قنصوه الغوري" الذي اتسم بالبذخ والترف؛ حيث نصبت قاعة ضخمة بخيمة كبيرة في وسطها قبة على أربعة أعمدة مرتفعة زُينت بالأواني والطاسات النحاسية وجلس على رأسها السلطان الغوري ومن حوله القضاة والأمراء وأعيان البلاد، والقراء والوعاظ، وبدأت الاحتفالات بمد الأطباق الحافلة بمختلف أنواع الأطعمة والمشروبات وتبارى المنشدون في المدائح النبوية.
وفي العام التالي 923 هـ سجل "ابن إياس" أن الصورة تغيرت تمامًا؛ حيث دخل العثمانيون مصر ولم يهتموا بإقامة احتفالات المولد، وربما يرجع ذلك إلى نفس سبب محاربة الأيوبيين للاحتفال بالمولد.
وتوارث المصريون عبر الزمن الاحتفال بالمولد النبوي حتى عصرنا الحالي، ولم تتغير مظاهر الاحتفال كثيرًا عن العقود الماضية، خاصة في الريف والأحياء الشعبية في المدن الكبرى.
ومع بداية شهر ربيع أول من كل عام تُقام سرادقات كبيرة حول المساجد الكبرى والميادين في جميع مدن مصر خاصة في القاهرة؛ حيث مساجد أولياء الله والصالحين، كمسجد الإمام الحسين والسيدة زينب (رضي الله عنها) تضم تلك الشوادر أو السرادقات زوار المولد من مختلف قرى مصر والباعة الجائلين بجميع فئاتهم وألعاب التصويب وبائعي الحلوة والأطعمة وسيركا بدائيا يضم بعض الألعاب البهلوانية وركنا للمنشدين والمداحين، وهم فئة من المنشدين تخصصت في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم .
وتعد "حلوى المولد" من المظاهر التي ينفرد بها المولد النبوي الشريف في مصر؛ حيث تنتشر في جميع محال الحلوى شوادر تعرض فيها ألوان عدة من حلوى المولد على رأسها السمسمية والحمصية والجوزية والبسيمة والفولية والملبن المحشو بالمكسرات.
كما تصنع من الحلوى بعض لعب الأطفال التي تؤكل بعد انتهاء يوم المولد وهي عروس المولد للبنات والحصان للأولاد .
وقد ارتبطت ذكري المولد في وجدان جميع الأطفال المصريين على مر العصور بهذه العرائس واللعب .
ويذكر المؤرخون أن الفاطميين هم أول من بدأ في صنع العروس من الحلوى في المولد.
وقد وصفها أحد الرحالة الإنجليز وهو "مارك جرش" الذي عاصر المولد النبوي في مصر بأنها عروس متألقة الألوان توضع في صفوف متراصة، وترتدي ثيابًا شفافة كأنها عروس حقيقية.
وذكر المقريزى أنها كانت تصنع من السكر على هيئة حلوى منفوخة وتجمل بالأصباغ، ويداها توضعان في خصرها وتزين بالأوراق الملونة والمراوح الملتصقة بظهرها.
وتؤكد الشواهد التاريخية أن عروس المولد مصرية خالصة، ويحاول بعض المؤرخين الربط بينها وبين تقليد عروس النيل في عهد المصرين القدماء.
وفي ذلك الصدد، يقول أحد المؤرخين أنه لا توجد كلمة فاصلة في هذا الأمر؛ لأن كثيرا من العادات والتقاليد المصرية يعكس تواصلا مع الحضارة المصرية القديمة عبر آلاف السنين.
وقد تعرضت عروس المولد التقليدية لتحديات عديدة في السنوات الأخيرة؛ بسبب تحذيرات الأطباء من تأثيرها الضار على أسنان الأطفال وخطورة الأصباغ والألوان الصناعية المستخدمة في صنعها، وهو ما أدى إلى عزوف الآباء عن شرائها للأطفال، لكنها ظهرت في صورة مصنوعة من البلاستيك تزين بالأقمشة الشفافة الملونة والمراوح الخلفية بأشكال وأحجام متعددة، وتتميز بأنها عملية؛ فهي أطول عمرًا ولا تتعرض للكسر، ولا تؤكل فتعرض صحة الأطفال للأضرار التي كشفها الأطباء، وكأن لسان حال الجميع أصبح يرى ذكرى مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم) يجب أن تظل فرصة للبهجة خالية من كل المواجع؛ فالخير لا يأتي إلا بالخير.
عادات وتقاليد شيعية دخلت علي المصريين
هناك عدد من المدن في مصر برز التشيع فيها وارتبط بها دون غيرها من مدن مصر . ولعل السبب في ذلك يعود إلى هجرات العلويين إلى هذه المدن ، أو يعود إلى وجود عدد من دعاة التشيع الذين استقروا بها . .
وجنوب مصر بمدنه أسوان واسنا وادفو وأرمنت كانوا مركزا للتشيع حتى فترة قريبة ولا تزال به بقايا تشيع حتى اليوم ، حيث كان الجنوب ملجأ للشيعة الفارين من وجه الأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك فيما بعد ، وكان وجود الصالح طلائع كوال للصعيد من قبل الفاطميين قد أسهم إلى حد كبير في نشر التشيع بين ربوعه .
فقد كانت للصالح اهتمامات دعوية وثقافية وأدبية بالإضافة إلى اهتماماته السياسية . وكانت القاهرة هي مركز حركة التشيع في مصر باعتبارها عاصمة الدولة الفاطمية ومقر الدعوة .
ومنها ينطلق الدعاة إلى أقاليم مصر ونجوعها ، والمدن الشيعية بالصعيد هي التي فجرت الثورات ضد صلاح الدين كما فجرت ثورات أخرى ضد المماليك والعثمانيين .
وعلى الرغم من وجود الدولة الفاطمية في مصر وسيطرتها على كل ربوعها شمالها وجنوبها لا نجد أثرا بارزا للتشيع في مناطق الوجه البحري ، وربما يكمن السبب في هذا إلى أن الهجرات العربية إلى مصر والتي تتابعت مع حركة الفتح الإسلامي استقرت في الجنوب وتمركزت به ، وأن الشمال حتى ذلك الوقت كان يتكون من أخلاط الناس ممن أصولهم غير عربية .
وقد كانت هناك أماكن ومدن في مصر موقوفة على العلويين . كمدينة قفط التي كانت وقفا على العلويين من أيام الإمام علي كرم الله وجهه .
وكان في القاهرة تجمعات شيعية تقل وتكثر حسب أحوال الزمان في حي الحسين وكانت أغلبها من الشيعة الوافدين إلى مصر بهدف الاستقرار فيها . والذين كانوا يقدمون من الشام وبلاد فارس والعراق وغيرها ، ولا تزال لهذه العائلات بقايا في مصر حتى اليوم . .
ويروي أحد المؤرخين أن الأعاجم عن الشيعة كانوا يفضلون السكن بالقرب من المشهد الحسيني ويتظاهرون في مولده بالزينة الفاخرة والولائم العظيمة ويحزنون عليه حزنهم المشهور ، ويجتمعون في منزل يتخذونه لذلك ويخطب أحدهم بالفارسية شعر رثاء آل البيت .
وقد استمرت مواكب الشيعة احتفالا بذكرى عاشوراء حتى فترة قريبة ويبدو أن هذه المواكب من بقايا العهد العثماني الذي اتيحت في أواخره فرصة لبروز شيعي وإن كان محدودا .
على الرغم من حملات الحصار الفكري التي شنها الأيوبيين على المصريين لمحو معالم التشيع من نفوسهم ، وتعمدهم القضاء على العادات والتقاليد الشيعية خاصة المواسم والأعياد ، رغم ذلك بقيت الكثير من العادات والتقاليد الشيعية توارثها المصريون جيلا بعد جيل حتى زماننا هذا . بل أصبحت هذه العادات والتقاليد جزءا من الشخصية المصرية ، وأن وجود مثل هذه العادات والتقاليد حتى اليوم يدل دلالة واضحة على أن التشيع استمر وجوده في الواقع المصري رغم البطش والتعتيم . .
ومن بين العادات الشيعية الباقية في مصر اليوم
ذكرى عاشوراء
وإن كان صلاح الدين قد حولها من ذكرى حزينة إلى ذكرى سعيدة واستمر المصريون يحتفلون بها على طريقته ، كذلك هناك ذكرى الاحتفال بليلة النصف من شعبان وهي عادة شيعية لا تزال باقية تحتفل بها الطرق الصوفية اليوم ، وهناك الاحتفال برأس السنة الهجرية وهي عادة ابتدعها الفاطميون ولا تزال مستمرة إلى اليوم . وعادة اقتناء الفوانيس في رمضان ولعب الصبيان بها في الطرقات من العادات الشيعة التي لا زالت تمارس في رمضان وقد انتقلت من مصر إلى بلاد أخرى .
وعلى مستوى الأسماء
لا يزال اسم " السيد " من الأسماء المنتشرة في مصر . ولا يزال هذا الاسم يطلق على كبار القوم وأعيان الناس من باب التشريف وتعلية المقام . فيقال السيد فلان والسيدة فلانة ، واسم السيد هو في الحقيقة صفة تشريفية خاصة بالأشراف المنتسبين لآل البيت فهي لا تطلق إلا على الأشراف فقط .
فيقال السيدة زينب أو السيدة نفيسة أو سيدنا الحسين أو السيد عمر مكرم أو السيد رفاعة الطهطاوي ، إلا أن المصريين أشاعوها بينهم من باب تعلية مقامهم ومكانتهم . . وبالإضافة إلى اسم السيد هناك اسم على والحسن والحسين والذي حرفه المصريون استسهالا للنطق إلى حسن وحسين . وتعد هذه الأسماء من أكثر الأسماء شيوعا في مصر بالنسبة إلى الرجال ، أما بالنسبة إلى النساء فهناك اسم فاطمة وزينب وسكينة ونفيسة وغيرها .
وفي مجال الأطعمة لا يزال كثير من المصريين يقاطعون الأرانب ولا يأكلونها وهي محرمة في مذهب الشيعة .
وعلى الجانب الآخر ، كانت هناك مسبة دائمة لشيعة مصر بدأت مع العصر الأيوبي لا تزال بقاياها ترددها السنة العوام دون أن تدرك معناها وهي قولهم في حالة الغضب من شخص ما " يا ابن الرفضي " . . وهي مسبة مشتقة من تسمية الشيعة بالروافض .